الندوة الفكرية الدولية للدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 25 الى 27 نوفمبر 2024
الورقة العلمية لندوة
المسرح والإبادة و المقاومة: نحو أفق إنسي جديد
للبشرية في زمنها المعاصر تجارب مريرة مع الدمار. وللدمار معنى مادي هو تدمير الشوارع والطرق والمباني والمؤسسات والمقرات والتماثيل والمعالم وتحطيم كامل محتوياتها. ويكون هدف مقترفي التدمير من إبادة الأمكنة جعل حياة الناس عسيرة والتواصل بينهم متقطعا واللحمة التي يفترض أن تجمعهم مكسورة، وحركة الإنتاج المادي والفكري لديهم أقل استمرارا وانسجاما
ولكن الدمار يطال أيضا كل مواقع إنتاج الفنون وتداولها، وبذلك تكون له دلالة معنوية تجعله جزءا من إبادة إثنية تغتال الذاكرات الإنسانية التي تحفظها تلك الفنون، مستودع التواريخ، وأرشيف الحياة الجارية، وسجل المستقبلات المنشودة، حيث تمنع سرد الروايات الأهلية بأصوات الفنانين المتجذرين في ثقافاتهم والمتفاعلين مع زميلاتهم وزملائهم من كل أصقاع العالم ولغاته وثقافاته
وفي هذا السياق، تمثل نصوص عديدة منها ميثاق روريش (1935)، والاتفاقية المتعلقة بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي (1972)، سندا قانونيا للمناهضة الإنسانية والدولية القوية لكافة أعمال الإبادة الثقافية، والتظلم ضدها، لا فحسب، بل وأيضا لإقرار الحق الإنساني في الحماية الدولية ضد جرائمها والنضال ضد مقترفيها
وعلى الرغم ممّا للإبادة الجماعية من ماض سحيق، بعضه معلوم وبعضه مغمور، فإن الحداثة نقلتها إلى مصاف غير مسبوق في التخطيط والتنظيم وإعداد الوسائل التكنولوجية لتيسير اقترافها واستثمار نتائجها وتسويقها ضمن الأجندات السياسية الدولية والإقليمية والوطنية. وتشمل تلك الأجندات التطهير العرقي والإجلاء القسري ومحو الذاكرات والاستيلاء على التراث المادي واللامادي وإنهاء الوجود الإثني. تلك هي خصائص الإبادة الكلية أو الجزئية المتعمدة لمجموعة بشرية بوصفها جماعة دينية أو عرقية أو إثنية أو قومية، من خلال عنف منهجي ومستدام وواسع النطاق وانتقائي تجاهها هي ذاتها، بهدف تدميرها. وعلى الرغم ممّا للإبادات الجماعية من تواريخ في أوروبا والشمال الكوني الحديثين، فإن ما شهدته بلدان الجنوب الكوني المستعمرة وشبه المستعمرة على امتداد القرون الخمس الماضية، بدءا بأمريكا الجنوبية، وصولا إلى أفريقيا وأستراليا وآسيا، جسّد مخططا رأسماليا إمبرياليا صارما وممنهجا لتحميل شعوبها وثقافاتها مصائرها المرعبة
وفي غزة، ومنذ أكتوبر 2023، تشهد حروب الإلغاءِ المستدامة للثقافات الإنسانية المعاصرة، والتي لم يكن لها حصر في البوسنة وكرواتيا ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ودارفور والسودان وغيرها، تصاعدا إجراميا صهيونيا غير مسبوق من خلال المجازر المتكررة ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ، والغارات الجوية والبرية المستهدفة للبيوت والمدارس والمستشفيات والمواقع الأثرية والمعالم والمؤسسات الدينية والثقافية والفنية والأكاديمية التي سُويت بالأرضِ. لقد ارتكب الغزاة الصهاينة لأرض فلسطين، ومنذ ما قبل فرض وجود الكيان الصهيوني بآلة الحرب والتقتيل والدمار والدعم الاستعماري الامبراطوري العالمي، المجزرة المبيّتة تلو الأخرى، وجريمة الإبادة الجماعية والمكانية والإثنية والثقافية تلو الجريمة من دون رادع حقيقي فعال. وفي مواجهتهم لهذا العدوان المريع، ينوب الفلسطينيون على الإنسانية في هذه التجربة المريرة، ويتحمّلون وقعها، وهو ما يستوجب تعميق التفكير وتجذير الفعل في مجال الفن المقاوم
وإن في المسرح إمكانيات لا حصر لها في إشراك فناني/فنانات الأداء وجماهيرهم/ن في ابتداع الوقائع والنصوص والصور لإعادة الاتصال بالحياة من قلب الإبادة والدمار. وبالفعل، للمسرح، بوصفه ممارسة شاملة، تمضي من الإبداع الكتابي الفردي أو الجماعي إلى الأداء التشخيصي الذي يتوسط العلاقة مع الجمهور ، وصولا إلى ما بعد العروض الفرجوية من الانفعال وتفاعل الأحاسيس والرؤى والنصوص مع النصوص، طاقة هائلة لممارسة فعل المقاومة. ولقد كان المسرح على الدوام حاضرا على ما كابدته الإنسانية من استبداد وطغيان وانتهاك للحقوق، ولكنه لم يكن شاهد زور. فكم من مسرح تأسس على الحرية وسمّي باسمها؟ وكم من ممارسة مسرحية ساهمت، حين سقطت قلاع مقاومة عتيدة، في تماسك شعب يعاني ويلات الحصار، وبثّت ما يعزز الشعور بالذات، وحفّزت على الاستمرار في الفخر بالإنسان الحرّ المبدع؟ وكم من مسرح بُني لَبِنَةً لَبِنَةً ليُمثّل صانعيه لا مضطهديهم، ويحمل هواجسَهم ويعبّر عن آلامهم ويشرق بأمنياتِهم؟ وكم من مسرح جمّع الرسامين، والموسيقيين والشعراء والكتّاب والفلاسفة وعلماء الإنسان والمجتمع لممارسة الإبداع الحر في وجه الدمار والإبادة والاستعمار والطغيان؟ أليست هذه هي فلسفة ‘مسرح المضطهد’ التي انطلقت من البرازيل، خلال سبعينات القرن العشرين، لتنتشر في أرجاء مختلفة من العالم؟ ألم تكن تلك هي حالة مسرحيي/مسرحيات جنوب أفريقيا الذين أوجدوا تعبيراتهم الدرامية المناهضة للاستعمار العنصري الأبيض وللإبادة ضمن سيرورة ‘الحقيقة والمصالحة’ خلال تسعينات القرن العشرين؟ ألم تكن تلك هي فلسفة ‘ماشيريكا (Mashirika)’ في رواندا (1998) التي جمعت ذوي ألسن وثقافات وانتماءات وطنية وتجارب فنية متنوعة لتأسيس تجربة مسرحية مناهضة للإبادة؟ أليست تلك هي روح ‘مسرح الحرية’ في مخيم جنين (2006)؟ وغيرها كثير
المقاومة هي شرط البقاء الإنساني في وجه أعداء الإنسانية، واﻹبداع الحرّ هو الحدثُ الأهمُّ في قلب تلك المقاومة. هو حدث، ولكنه بنية أيضا وسيرورة اجتماعية تاريخية، تعيد توليد الحياة من خلال تسجيل الشهادة وكتابة التاريخ وحفظ أرشيف الوجود البشري، وابتداع المستقبلات الممكنة. ولذلك فإن المسرح بوصفه حدثا وبنية، هو ما يؤثثه المبدعون بكل ما يدين العسف، ويكشفُ الظلم، ويفضحُ الجريمة ويثير السؤال
وعلى ذلك يعمل مسرح الإبادة الجماعية، ومن خلال المشاركة التي تخرج من ثنائية المؤدي-المتفرج، على خلق حالات وعي تفاعلي، فردية وجماعية، حول التسلط والاستغلال والتجريد من الإنسانية والعنصرية والتمييز. وبينما يضع النص المسرحي الكلمات في أفواه الممثلين، هو يفسح لهم المجال للتفوّه والأداء بما يُسكت أصوات الإبادة والدمار، وبينما يضع المسرحيون الأقنعة على الشخوص التي يؤدونها هم ينزعون عنها كل تلك الأقنعة البيضاء التي تمنع البشرات السوداء من السّفور ومواجهة أعدائها بوجوه مكشوفة
وفي هذا المنعرج الفلسطيني الذي يمر به الفكر الإنساني التحرري اليوم، تتأكد ضرورة مسرحٍ مناهضٍ للإبادة أكثر من أيّ وقت مضى، بحيث يندرج في أفقٍ هو من طبيعة إنسية جديدة، تعمل على إعادة تأسيس الفكر المدافع عن الإنسانية الحرّة. ففي المسرح، وعلى الركح ثمة حوار ومقارعة للرأي بالرأي، ومواجهة للإرادة بالإرادة، ومغالبة للتسلّط بالهزل، وقلب لمسار المصير ‘المحتوم’، أساسه ذوات حرة تصنع مصائر مُختارة. وهو في هذا يستمدّ مادته من روافده في الآداب الفصحى والشعبية، وفي الفنون القديمة والجديدة ومن علوم الإنسان والمجتمع ومن الفلسفات. بهذا المعنى، لا يمكن للمسرح أن يضطلع بهذه المهمة إلا إذا ساهم في كسر القطيعة ما بين العلوم الإنسانية والاجتماعية والفن، باعتبارها خلاصة معارف البشر عن أنفسهم ماضيا وحاضرا وتطلعا إلى المستقبل، وباعتباره هو مِصْهَرًا للفنون والآداب والمعارف المهتمة بالإنسان والمجتمع
وفي هذا الخضم، تُطرح جملة من المسائل الجمالية والإيتيقية يمكن أن تمثل محاور لندوة أيام قرطاج المسرحية في دورتها 25 التي تنعقد تحت عنوان المسرح والإبادة و المقاومة: نحو أفق إنسي جديد
الخصوصيات الجمالية لممارسة مسرح الابادة ومسرح المقاومة في مختلف المجتمعات وخلال الزمن الاستعماري والرأسمالي الاستهلاكي
ايتيقا وضع الدمار والإبادة على الركح وتحويلهما الى مشهد مسرحي
علاقة الفن المسرحي بعلوم الانسان والمجتمع التي تخوض في ذاكرات الابادة والمقاومة والصناعة التاريخية الاجتماعية للهويات
مسرح الابادة والمقاومة وابتداع المستقبلات الممكنة
مدير الندوة: منير السعيداني
منسقة الندوة: بسمة فرشيشي